فصل: تفسير الآية رقم (9):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآيات (7- 8):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [7- 8].
{وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ} أي: أحمالكم: {إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ} بكسر الشين المعجمة وفتحها، قراءتان، وهما لغتان في معنى المشقة أي: لم تكونوا بالغيه بأنفسكم إلا بجهد ومشقة، فضلاً عن أن تحملوا على ظهوركم أثقالكم: {إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} أي: حيث سخرها لمنافعكم.
ثم أشار إلى ما هو أتم في دفع المشقة وإفادة الزينة، فقال: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ} عطف على {الأنعام}: {لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} عطف محل {لتركبوها} فهي مفعول له، أو مصدر لمحذوف. أي: وتتزينوا بها زينة، أو مصدر واقع موقع الحال من فاعل {تركبوها} أو مفعوله. أي: متزينين بها، أو متزيناً بها. وسر التصريح باللام في المعطوف عليه، دون المعطوف، هو الإشارة إلى أن المقصود المعتبر الأصلي في الأصناف، هو الركوب. وأما التزين بها فأمر تابع غير مقصود قصد الركوب. فاقترن المقصود المهم باللام المفيدة للتعليل، تنبيهاً على أنه أهم الغرضين وأقوى السببين. وتجرد التزين منها تنبيهاً على تبعيته أو قصوره عن الركوب. والله أعلم. كذا في الانتصاف.
تنبيه:
استدل بهذه الآية القائلون بتحريم لحوم الخيل، قائلين بأن التعليل بالركوب يدل على أنها مخلوقة لهذه المصلحة دون غيرها. قالوا: ويؤيد ذلك إفراد هذه الأنواع الثلاثة بالذكر وإخراجها عن الأنعام. فيفيد ذلك اتحاد حكمها في تحريم الأكل. قالوا: ولو كان أكل الخيل جائزاً؛ لكان ذكره والامتنان به أولى من ذكر الركوب؛ لأنه أعظم فائدة منه. وأجاب المجوزون لأكلها، بأنه لا حجة في التعليل بالركوب؛ لأن ذكر ما هو الأغلب من منافعها لا ينافي عيره.
ولا نسلم أن الأكل أكثر فائدة من الركوب حتى يذكر ويكون ذكره أقدم من ذكر الركوب. وأيضاً لو كانت هذه الآية تدل على تحريم الخيل؛ لدلت على تحريم الحمر الأهلية، وحينئذ لا يكون ثَم حاجة لتجديد التحريم لها عام خيبر. وقد قدمنا أن هذه السورة مكية.
والحاصل: أن الأدلة الصحيحة قد دلت على حل أكل لحوم الخيل. فلو سلمنا أن هذه الآية متمسكاً للقائلين بالتحريم؛ لكانت السنة المطهرة الثابتة رافعة لهذا الاحتمال، ودافعة لهذا الاستدلال. وقد ورد في حل أكل لحوم الخيل، أحاديث منها ما في الصحيحين وغيرهما من حديث أسماء قالت: نحرنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرساً، فأكلناه. وأخرج أبو عبيد وابن أبي شيبة والترمذي وصححه، والنسائي وغيرهم عن جابر قال: أطعمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لحوم الخيل، ونهانا عن لحوم الحمر الأهلية. وأخرج أبو داود نحوه. وثبت أيضاً في الصحيحين من حديث جابر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحمر الأهلية، وأذن في الخيل.
وأما ما أخرجه أبو داود والنسائي وغيرهما من حديث خالد بن الوليد قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع، وعن لحوم الخيل والبغال والحمير. ففي إسناده صالح بن يحيى، فيه مقال. ولو فرض صحته لم يقو على معارضة أحاديث الحل. على أنه يمكن أن يكون متقدماً على يوم خيبر، فيكون منسوخاً. كذا في فتح البيان.
وفي الإكليل: أخذ المالكية، من الاقتران المذكور، رداً على الحنفية في قولهم بوجوب الزكاة فيها. أي: الخيل. وقوله تعالى: {وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} أي: من المخلوقات في القفار والبحار، وصيغة الاستقبال للدلالة على التجدد والاستمرار. أو لاستحضار الصورة.

.تفسير الآية رقم (9):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [9].
{وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} في الآية فوائد:
الأولى: قال ابن كثير: لما ذكر تعالى من الحيوانات ما يسار عليه في السبل الحسية نبه على الطرق المعنوية الدينية، وكثيراً ما يقع في القرآن العبور من الأمور الحسية إلى الأمور المعنوية الدينية، كقوله تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197]، وقال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف: 26].
ولما ذكر تعالى في هذه السورة الحيوانات من الأنعام وغيرها، التي يركبونها ويبلغون عليها حاجة في صدورهم، وتحمل أثقالهم إلى البلاد والأماكن البعيدة والأسفار الشاقة، شرع في ذكر الطرق التي يسلكها الناس إليه، فبين أن الحق منها موصلة إليه، فقال: {وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ}. كقوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِه} [الأنعام: 153]. وقال: {هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} [الحجر: 41]. انتهى. وقوله سبحانه: {إِنِّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى}.
الثانية: قال أبو السعود: القصد: مصدر بمعنى الفاعل. يقال: سبيل قصد وقاصد: أي: مستقيم. على طريقة الاستعارة أو على نهج إسناد حال سالكه إليه، كأنه يقصد الوجه الذي يؤمه السالك لا يعدل عنه. أي: حقٌّ عليه سبحانه وتعالى، بموجب رحمته ووعده المحتوم، بيان الطريق المستقيم الموصل لمن يسلكه إلى الحق، الذي هو التوحيد: بنصب الأدلة وإرسال الرسل وإنزال الكتب لدعوة الناس إليه. أو مصدر بمعنى الإقامة والتعديل. قاله أبو البقاء. أي: عليه، عز وجل، تقويمها وتعديلها. أي: جعلها بحيث يصل سالكها إلى الحق. لكن لا بعد ما كانت في نفسها منحرفة عنه، بل إبداعها ابتداء كذلك على نهج سبحان من صغَّر البعوض، وكبَّر الفيل. وحقيقته راجعة إلى ما ذكر من نصب الأدلة. وقد فعل ذلك حيث أبدع هذه البدائع التي كل واحد منها لاحبٌ يهتدى بمناره، وعلم يستضاء بناره، وأرسل رسلاً مبشرين ومنذرين، وأنزل عليهم كتباً من جملتها هذا الوحي الناطق بحقيقة الحق، الفاحص عن كل ما جل من الأسرار ودق، الهادي إلى سبيل الاستدلال بتلك الأدلة المفضية إلى معالم الهدى، المنجِّية عن فيافي الضلالة ومهاوي الردى.
الثالثة: الضمير في: {وَمِنْهَا جَائِرٌ} للسبيل. فإنها تؤنث. أي: وبعض السبيل مائل عن الحق، منحرف عنه، لا يوصل سالكه إليه. وهو طرق الضلالة التي لا يكاد يحصى عددها، المندرج كلها تحت الجائر، كقوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153].
قال أبو السعود، بعد ما تقدم، أي: وعلى الله تعالى بيان الطريق المستقيم الموصل إلى الحق وتعديله، بما ذكر من نصب الأدلة ليسلكه الناس باختيارهم ويصلوا إلى المقصد. وهذا هو الهداية المفسرة بالدلالة على ما يوصل إلى المطلوب، لا الهداية المستلزمة للاهتداء البتة. فإن ذلك مما ليس بحق على الله تعالى. لا بحسب ذاته ولا بحسب رحمته، بل هو مخلٌّ بحكمته، حيث يستدعي تسوية المحسن والمسيء، والمطيع والعاصي، بحسب الاستعداد. وإليه أشير بقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} أي: لو شاء أن يهديكم إلى ما ذكر من التوحيد، هداية موصلة إليه البتة، مستلزمة لاهتدائكم أجمعين؛ لفعل ذلك، ولكن لم يشأه؛ لأن مشيئته تابعة للحكمة الداعية إليها. ولا حكمة في تلك المشيئة؛ لما أن الذي عليه يدور فلك التكليف، وإليه ينسحب الثواب والعقاب، إنما هو الاختيار الذي عليه يترتب الأعمال، التي بها نيط الجزاء.
ولما كان أشرف أجسام العلم السفلي، بعد الحيوان، النبات، تأثر ما مرَّ من الإنعام بالأنعام والدواب، التي يستدل بها على وحدته تعالى، بذكر عجائب أحوال النبات، للحكمة نفسها، فقال سبحانه:

.تفسير الآيات (10- 11):

القول في تأويل قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [10- 11].
{هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ} أي: المزن: {مَاءً لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ} يسكن حرارة العطش: {وَمِنْهُ شَجَرٌ} أي: ومنه يحصل شجر. والمراد به: ما ينبت من الأرض، سواء كان له ساق أو لا {فِيهِ تُسِيمُونَ} أي: ترعون أنعامكم.
{يُنبِتُ} أي: الله عز وجل: {لَكُم بِهِ الزَّرْعَ} أي: الذي فيه قوت الإنسان: {وَالزَّيْتُونَ} أي: الذي فيه إدامه.: {وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ} أي: اللذين فيهما، مع ذلك، مزيد التلذذ: {وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ} أي: يخرجها بهذا الماء الواحد، على اختلاف صنوفها وطعومها وألوانها وروائحها. ولهذا قال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ} أي: في إنزال وإنبات ما فصل: {لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} أي: دلالة وحجة على وحدانيته تعالى. كما قال سبحانه: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} [النمل: 60].
قال أبو السعود: وأصله للرازي في شرح كون ما ذكره حجة، فإن من تفكر في أن الحبة أو النواة تقع في الأرض وتصل إليها نداوة تنفذ فيها فينشق أسفلها فيخرج منه عروق تنبسط في أعماق الأرض، وينشق أعلاها وإن كانت منتكسة في الوقوع، ويخرج منه ساق فينمو ويخرج منه الأوراق والأزهار والحبوب والثمار المشتملة على أجسام مختلفة الأشكال والألوان والخواص والطبائع، وعلى نواة قابلة لتوليد الأمثال على النمط المحرر، لا إلى نهاية، مع اتحاد المواد واستواء نسبة الطبائع السفلية والتأثيرات العلوية، بالنسبة إلى الكل، عَلم أن من هذه أفعاله وآثاره لا يمكن أن يشبهه شيء في شيء من صفات الكمال، فضلاً عن أن يشاركه أخس الأشياء في أخص صفاته، التي هي الألوهية واستحقاق العبادة. تعالى عن ذلك علواً كبيراً. وحيث افتقر سلوك هذه الطريقة إلى ترتيب المقدمات الفكرية، قطع الآية الكريمة بالتفكر. انتهى. وقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (12):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [12].
{وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ} أي: لمنامكم ومعاشكم ولعقد الثمار وإنضاجها: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} لإصلاح ما نيط بهما صلاحه من المكونات: {وَالْنُّجُومُ} ليهتدى بها في ظلمات البر والبحر. وقوله تعالى: {مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ} حال من الجميع، على معنى جعلها مسخرات؛ لأن في التسخير معنى الجعل فصحت على أنه تجريد. أو على أن التسخير لهم نفع خاص.
فمعناه: نفعكم حال كونها مسخرات لما خلقت له، مما هو طريق لنفعكم. فـ: {سخر} بمعنى نفع على الاستعارة أو المجاز المرسل؛ لأن النفع من لوازم التسخير. أو على أن {مسخرات} مصدر ميميِّ، منصوب على أنه مفعول مطلق. وسخرها مسخرات، على منوال ضربته ضربات، أو يجعل قوله: {مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ} بمعنى مستمرة على التسخير بأمره الإيجادي؛ لأن الإحداث لا يدل على الاستمرار. وقرئ بنصب {الليل والنهار} وحدهما، ورفع ما بعدهما على الابتداء والخبر. وقرئ: {وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ} بالرفع مبتدأ وخبر، وما قبله بالنصب: {إِنَّ فِي ذَلِكَ} أي: تسخير ما ذكر: {لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}.
ولما نبه تعالى على معالم السماوات، نبه على ما خلق في الأرض من الأمور العجيبة، والأشياء المختلفة، من الحيوانات والمعادن والنباتات والجمادات، على اختلاف ألوانها وأشكالها، وما فيها من المنافع والخواص، بقوله سبحانه:

.تفسير الآية رقم (13):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} [13].
{وَمَا ذَرَأَ} عطف على قوله تعالى: {وَالنُّجُومُ} رفعاً ونصباً، على أنه مفعول لجعل أي: وما خلق: {لَكُمْ فِي الأَرْضِ} أي: من حيوان ونبات: {مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ}.
ثم نبه تعالى ممتناً على تسخيره البحر، وتعداد النعم به إثر امتنانه بنعم البر، بقوله:

.تفسير الآية رقم (14):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طريًّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [14].
{وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طريًّا} هو السمك.
قال الزمخشري: ووصفه بالطراوة؛ لأن الفساد يسرع إليه، فيسارع إلى أكله، خيفة الفساد عليه.
قال الناصر: فكأن ذلك تعليم لأكله، وإرشاد إلى أنه لا ينبغي أن يتناول إلا طريًّا. والأطباء يقولون: إن تناوله بعد ذهاب طراوته أضر شيء يكون. والله أعلم. انتهى.
قال الشهاب: ففيه إدماج لحكم طبي. وهذا لا ينافي تقديده وأكله مخللاً، كما توهم. انتهى.
أقول: الأظهر في سر وصفه بالطراوة: هو التنبيه على حسنه ولطفه، وعلى التفكير في باهر قدرته وعجيب صنعه سبحانه، في خلقه إياه، على كيفية تباين لحوم حيوانات البر، مع اشتراكهما في الحيوانية.
{وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً} كاللؤلؤ والمرجان: {تَلْبَسُونَهَا} أي: تلبسها نساؤكم، والإسناد إليهم؛ لأنهن من جملتهم في الخلطة والتابعية، ولأنهن إنما يتزين بها من أجلهم، فكأنها زينتهم ولباسهم. أو معنى {تلبسون} تتمتعون وتلتذون، على طريق الاستعارة والمجاز. ولو جعل من مجاز البعض لصح. أي: تلبسها نساؤكم.
قال الناصر: ولله درُّ مالك رضي الله عنه، حيث جعل للزوج الحجر على زوجته فيما له بال من مالها. وذلك مقدر بالزائد على الثلث؛ لحقه فيه بالتجمل. فانظر إلى مكانة حظ الرجال من مال النساء ومن زينتهن، حتى جعل حظ المرأة من مالها وزينتها حلية له. فعبر عن حظه في لبسها بلبسه، كما يعبر عن حظها سواء.
قال الشهاب: فإن قلت: الظاهر أن يقال تحلونهن، أو تقلدونهن كما قال:
تروع حصاه حالية العذارى ** فتلمس جانب العقد النظيم

وهي للنساء دون الرجال.
قلت: أما الأول فسهل؛ لأن المراد لازمه. أي: تحلونهن. والثاني على فرض تسليمه: هم يتمتعون بزينة النساء، فكأنهم لابسون. وإذا لم يكن تغليباً، فهو مجاز، بمعنى: تجعلونها لباساً لبناتكم ونسائكم. ونكتة العدول: أن النساء مأمورات بالحجاب وإخفاء الزينة عن غير المحارم. فأخفي التصريح به ليكون اللفظ كالمعنى. انتهى.
وناقش صاحب فتح البيان ما قدروه في الآية حيث قال: وظاهر قوله تعالى: {تَلْبَسُونَها} أنه يجوز للرجال أن يلبسوا اللؤلؤ والمرجان، أي: يجعلونهما حلية لهم كما يجوز للنساء. ولا حاجة لما تكلفه جماعة من المفسرين في تأويل قوله: {تَلْبَسُونَها} بقولهم: تلبسها نساؤهم. لأنهن من جملتهم، أو لكونهن يلبسنها لأجلهم. وليس في الشريعة المطهرة ما يقتضي منع الرجال من التحلي باللؤلؤ والمرجان، ما لم يستعمله على صفة لا يستعمله عليها إلا النساء خاصة. فإن ذلك ممنوع، ورد الشرع بمنعه، من جهة كونه تشبهاً بهن، لا من جهة كونه حلية لؤلؤ أو مرجاناً. انتهى.
قال السيوطي في الإكليل: في الآية دليل على إباحة لبس الرجال الجواهر ونحوها. واستدل بها من قال بحنث الحالف لا يلبس حلياً بلبس اللؤلؤ؛ لأنه تعالى سماه حليًّا واستدل بها بعضهم على أنه لا زكاة في حلي النساء. فأخرج ابن أبي حاتم عن أبي جعفر، أنه سئل: هل في حلي النساء صدقة؟ قال: لا، هي كما قال: {حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا}. انتهى.
قال في فتح البيان: وفي هذا الاستدلال نظر. والذي ينبغي التعويل عليه: أن الأصل البراءة من الزكاة حتى يرد الدليل بوجوبها في شيء من أنواع المال فتلزم. وقد ورد في الذهب والفضة ما هو معروف. ولم يرد في الجواهر، على اختلاف أصنافها ما يدل على وجوب الزكاة فيها. وقوله تعالى: {وَتَرَى الْفُلْكَ} أي: السفن: {مَوَاخِرَ فِيهِ} أي: جواري جمع ماخرة بمعنى جارية. وأصل معنى المخر: الشق؛ لأنها تشق الماء بمقدمها: {وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} عطف على محذوف، أي: لتنتفعوا بذلك: {وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} أي: من سعة رزقه، بركوبها للتجارة: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي: فتصرفون ما أنعم به عليكم إلى ما خلق لأجله.
قال أبو السعود: ولعل تخصيص هذه النعمة بالتعقيب بالشكر، من حيث إن فيها قطعاً لمسافة طويلة، مع أحمال ثقيلة، في مدة قليلة، من غير مزاولة أسباب السفر. بل من غير حركة أصلاً. مع أنها في تضاعيف المهالك. وعدم توسيط الفوز بالمطلوب بين الابتغاء والشكر؛ للإيذان باستغنائه عن التصريح به وبحصولهما معاً.
وقوله تعالى: